ثورة 17 فبراير وانتفاضة شعب
ثورة 17 فبراير وانتفاضة شعب
ينبغي في البداية أن نوضح كيف تولد الثورة من خلال حراك شعبي اجتماعي ينتج عن مجموعة من العوامل التي صنعها "شكل" دكتاتوري فردي سواء كان عسكري أم مدني، هذا "الشكل من أشكال الحكم" أيا كانت تسميته يحتكر السلطة والحكم ولا يعترف بحقوق مواطنيه ولا بمعارضة رسمية ولا بقانون عادل يسري على الجميع بالعدل والمساواة ولا أحزاب سياسية ولا تطلعات شعبية ولا يسمح ولو بهامش بسيط من الحريات العامة، ويظل هذا الشكل عاجزاً لسنوات عديدة - رغم ما توفر له من إمكانيات مادية كبيرة وكفاءات بشرية - كما كان عليه الحال في ليبيا عن إنشاء دولة مؤسسات وبناء الإنسان المواطن، كما لا يستطيع أن يحقق أي تنمية اقتصادية ولا رخاء ولا تطور في مجال الصحة والتعليم والبحث العلمي والبنية التحتية وهذا يفتح الطريق للثورة التي تعبر عن غضب يصعب التحكم فيه لكي تولد الثورة.
لم تأتي ثورة 17 فبراير عبثاً ولا من فراغ ولم تكن من صنع قوى خارجية إقليمية وأجنبية بل كانت نتيجة تراكم وممارسات ظالمة استمرت على امتداد أربعة عقود، وكان لابد لهذه التراكمات وكل الممارسات الظالمة أن تصل للحظة ما إلى درجة الانفجار، بالطبع, لقد بدأت الثورة بمظاهرة شعبية عفوية بسيطة في الشارع الليبي، ولقد تصورها دكتاتور ليبيا وأعوانه وأتباعه بما يملك من أدوات العنف وتعدد الأجهزة القمعية ولجانه الغوغائية وكل الأشكال التي صنعها للسيطرة والتحكم في الشعب الليبي، وكان الاعتقاد لدى الدكتاتور أن ما يحدث لن يكون سوى مجرد حادثة أو أحداث بسيطة لن تغير من مجرى الأحداث والتاريخ في ليبيا، ونسى الدكتاتور أن حالة الصبر والاحتمال ودرجة الغليان لدى غالبية الشعب قد وصلت إلى مداها ليس في مدينة واحدة من مدن ليبيا بل في كل مدنها ومناطقها وحتى في قراها، وكان رهان ووهم وغرور الدكتاتور القذافي أن غالبية الليبيين سوف تنحاز إليه لتقضي على أي تحرك ضده وضد سلطاته وجبروته ولكن خاب ظنه فقد كانت تلك التراكمات والممارسات الظالمة وحالة الفساد التي وصلت إليها الأجهزة الرسمية للدكتاتور والأشخاص المحيطين بالقذافي وأبنائه هي الفتيل الذي أشعل تلك المظاهرة البسيطة التي أدت إلى اندلاع الثورة الشعبية في معظم أرجاء ليبيا، ولا ننسي في هذا السياق الجانب الإقليمي لدول الجوار في كل من تونس ومصر حيث هيئا الله ظروف نجاح الثورة للشعبين التونسي والمصري والانتصار على النظامين الجاثمين لسنوات طويلة على الشعبين، مما أعطى ورسّخ الأمل وأحيا نفوس الليبيين وقدرتهم على الثورة وإسقاط "نظام" القذافي، كما أن التطور التقني في مجال الانترنت وتعدد القنوات الفضائية التي تنقل الأحداث مباشرة قد زادت من وعي الشعوب وقدرتها على المقارنة بين حياتها وأوضاعها وهكذا خرج الشعب الليبي بثورة شعبية دون تنسيق وقيادة وليس له هدف سوى التغيير الكلي والجذري للشكل الدكتاتوري الاستبدادي الذي ظل يحكم ليبيا لأكثر من 40 عام، لعله يؤسس لقيام نظام سياسي جديد يؤمن بحق الجميع وبدولة ديمقراطية تخدم كل الشعب لا حكم الفرد أو العائلة، أو العسكر فالثورة كانت علامة مفصلية فى تاريخ ليبيا والشعب الليبي بالرغم من كل التداعيات السلبية اللاحقة.
كيف بدأ لخلل بعد الثورة؟
بدأ الخلل مبكراً عندما واجه الشعب الليبي الكثير من التكالب الداخلي والخارجي حتى أصبح الواقع مصبوغاً بالكثير من الجهل لرؤوس منكّسة، أعياها التدبر والفهم من تبصّر الحقيقة، زمن طغت فيه ثقافة التشظي والانقسام والصراع على اقتسام الغنائم السياسية والمادية وفق شريعة الطمع والجشع من الانتهازيين والوصوليين ومن كان ولائه للدكتاتور فقام بسرعة البرق بتبديل مواقفه وأقواله حيث ولدت الثورة المضادة التي لاحقت شعبنا من كلّ مكان وزرعت ثقافة مبتورة من واقعها لا تعبر عن أبعاد وعمق الحقيقة بل تزيّف المعلومات في الواقع الحاضر لكي تكتب تاريخ مشوّه وتحاول إعادة الوجه الواحد، والرأي الواحد، والطعم الواحد، والصوت الواحد، وهي تخاطب من خلال القنوات الفضائية المدعومة من الخارج الغرائز المهتاجة بالقبلية والجهوية والعنصرية والخطاب الذي يمسح كلّ ما تبقى من الوعي والإدراك، وكذلك عبر الجيوش الإلكترونيّة التي تُدار من أقبية الاستخبارات الإقليمية والأجنبية، فتسبّح بحمد وبمجمد الطواغيت والمستبدّين الجدد من العسكر أو المدنيين الذين قفزوا على المناصب أو نصبوا أنفسهم أوصياء على الناس تحت تأثير الثقافة المظلمة لتستلب بقايا الوعي. هل هناك حل للحالة المزرية التي تعيشها ليبيا الآن؟
الحل لما يحدث الآن في الوطن من المأزق الذي تعيش فيه البلاد - من وجهة نظري الشخصية المتواضعة - حلاً واحداً يكمن في يد الشعب الليبي وهو يتمثل في خروج المظاهرات الشعبية في كل المدن والمناطق لتنحية كل الأجسام الحالية والمنتهية الصلاحية واختيار مجلس للسيادة بطريقة منظمة قد يتكون من عضوين من كل المدن والمناطق يتولى اختيار حكومة وطنية تُعد دستور وقاعدة دستورية لانتخابات عامة نيابية ورئاسية لعل هذه الانتخابات تفرز أشخاصا صالحين (كبدوهم على مصلحة ليبيا وخدمة شعبها).
إن الليبيين في ظل الظروف الحالية هم في سباق مع الزمن المتسارع وأن طريق الحرية طويل وشاق بالرغم من كل الصعاب والمعوقات ومسيرة الثورة المتعثرة، وبالرغم من تجرع مرارة الخذلان والغدر من كثير من الأشخاص من أصحاب الطموحات في السلطة والحكم وبعض المكونات القبلية والجهوية وأنصار الدكتاتور السابق إلا أن الحل مازال مرتبط بمدى قدرة شعبنا الليبي على أن يعي حجم الكوارث التي لحقت به حتى الآن، وأن يوقف سيناريوهات سقوط الدولة الليبية وانهيارها أو انقسامها، فالحلول المتأخّرة عن أوانها غالباً ما تكون عبثيّة وعديمة الجدوى، والفرصة الآن سانحة للتغيير في ذكرى ثورة 17 فبراير لكي يُدرك شعبنا الليبي أن أوراق الخريف اليابسة التي لم تقدم للوطن وللشعب أي شئ بل زادت من معاناته على كل الاصعد ومن جميع النواحي، لابد لها أن تتساقط عن شجرة الثورة لتبقى اغصانها الوارفة والمروية بدماء الشهداء والضحايا الأبرياء متماسكة بجذورها تواجه الواقع المريض وهى ترنو إلى التحرر من هذا الواقع وإسقاط رموزه المزيفة الجاثمة على صدور شعبنا لأكثر من عشر سنوات.
بقلم / عبد المنصف حافظ البوري
السفير الليبي الأسبق لدى قطر
Comments